محمد عبد العال يكتب عن .. ترويض التضخم !!

إن إجراء أي رفع أو خفض فى المرحلة الحالية التي يعاصر فيها العالم حالة شديدة من حالات عدم اليقين قد يكون في غير توقيته

فيما يبدو أن ظاهرة التضخم سَتَعُمْ العالم أجمع خلال العام الحالي ، ولن تفرق بين بلد متقدم أو بلد نامي ، ويعود ذلك بشكل مباشر إلى أثر التعافي الاقتصادي العالمي من جائحة كورونا ، وزيادة الطلب على السلع والخدمات ، مع تولد رياح معاكسة أخرى حملت معها دوافع التضخم ، مثل تفاقم واستمرار أزمات سلاسل الإمداد والتوريد ، ونقص المتاح من مصادر الطاقة ، إلى جانب ما نعايشه  حالياً على الساحة العالمية من مخاطر  جيوسياسية  ، بسبب الأزمة الأوكرانية التي تسبب قلقا كبيرا فى أسواق الطاقة الدولية ، حيث أن روسيا توفر وحدها نحو 40% من الغاز لدول الإتحاد الأوروبي ، وهناك أيضا معضلة المفاوضات النووية الإيرانية.

كل تلك الأسباب والعوامل خلقت بيئة اقتصادية مواتية لأن يتمدد التضخم المدفوع بارتفاعات أسعار الطاقة ، والمدعم بانتشار المتحور الجديد أوميكرون ، ونرى معدل التضخم يسجل ارتفاعات غير مسبوقة في معظم الدول ، حيث حقق التضخم السنوي في أوروبا ارتفاعا  بلغ 5.1% فى يناير الماضي ، وهو أعلى معدل منذ 1997 ، ولذلك يتعرض البنك المركزي الأوروبي حالياً لمطالبات متزايدة للتراجع عن الحوافز المالية وسياسات خفض معدلات الفائدة الصفرية ويُطالب بالتوجه لرفع أسعار الفائدة ، أما في الولايات المتحدة الأمريكية ، فقد سجل معدل التضخم في شهر يناير الماضي أكبر زيادة سنوية منذ 40 عاماً مسجلا 7.5% ، وهو ما عزز إمكانية  أن يتوجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي نحو تشديد سياسته النقدية ويسرع من وتيرة رفع أسعار الفائدة اعتبارا من مارس القادم.

 والآن ما الذي حدث في مصر ؟

مصر جزء من هذا العالم الاقتصادي الشامل المتشابك ، نحن نتعامل معه في كل جوانب التجارة الخارجية الدولية ، تصديراً واستيراداً ، مثلا نصدر الغاز ، ونستورد منتجات بترولية ، ولكننا للأسف نستورد أكثر بكثير مما نصدر ، نحن نصدر سنويا في حدود 35 مليار دولار فقط ، ولكننا نستورد بما يفوق 60 مليار دولار سنوياً ، لأننا نستورد حوالي 60% من الخامات ومستلزمات الإنتاج والسلع الإستراتيجية اللازمة للعملية الإنتاجية الصناعية في مصر.        

وكنتيجة مباشرة لارتفاع أسعار الطاقة من جميع مصادرها وأنواعها، خاصة النفط والغاز ، وأيضا ارتفاع بعض المواد الرئيسية المعتمدة على الطاقة ، يكون الأمر المنطقي أو التأثير المحتمل علينا هو فى إمكانية أو حتمية انتقال بعض درجات تلك الموجة التضخمية المستوردة إلينا ، خاصة مع الارتفاع المتتالي في تكاليف الشحن ، وهذا ما حدث فعلا ، حيث ارتفع ‏ معدل التضخم السنوي العام لأسعار  سلع المستهلكين لإجمالي الجمهورية المعلن من جهاز التعبئة العامة والإحصاء ، إلى 7.3% في يناير  الماضي ، مقابل 5.9% في الشهر السابق ، وهو أعلي معدل مسجل منذ أغسطس 2019 أو منذ 30 شهرا.

 وأيضاً ارتفع معدل التضخم السنوي الأساسي المعد من قبل البنك المركزي المصري (والذي لا يأخذ في اعتباره تأثير السلع التي تتحدد أسعارها إدارياً بالإضافة إلى بعض أنواع السلع التي تتأثر بصدمات العرض والطلب المؤقتة ) إلى 6.3% في شهر يناير الماضي على أساس سنوي مقابل 6% في ديسمبر السابق.

 السؤال المهم المطروح الآن ، ماذا عن مستقبل السياسة النقدية فى ترويض معدل التضخم الحالي ، إذا ما استمر فى الارتفاع وتجاوز الحدود المستهدفة من البنك المركزي ؟

 هل سيحيد البنك المركزي المصري عن سياسته فائقة التيسير التي اتبعها منذ مارس 2020 لمواجهة تداعيات صدمة كورونا، ودفع النمو الاقتصادي وإتاحة فرص التشغيل؟

 وهنا يتعين علينا أن نذكر بعض الحقائق كمقدمة لمحاولتنا البحث عن إجابة واقعية:

1 – إن المهمة الأساسية للسياسة النقدية هي ليست فقط مواجهة التضخم والسيطرة عليه ، ولكن أيضا الحفاظ على معدل النمو الاقتصادي في الحدود المخططة ، وتحقيق التوازن الأمثل بين المؤشرات الاقتصادية الكلية ، وتحقيق استقرار سعر الصرف وتنمية مصادر النقد الأجنبي المختلفة ، بما فيهم الاستثمار الأجنبي المباشر.

2 – إن الاستعجال في استخدام سياسة رفع الفائدة ( التقييد النقدي ) في مواجهة ظاهرة التضخم ، هو أمر ليس مؤكد النجاح هذه المرة لاختلاف الظروف المحلية والدولية الحالية عن تلك التي كانت مع بداية برنامج الإصلاح، حيث كانت أسباب التضخم تعود إلى زيادة المعروض النقدي وزيادة الطلب السلعي ، وهو ما نجح في علاجه استخدام سياسة رفع سعر الفائدة ، أما التضخم الحالي فهو بشكل أساسي ناتج عن ارتفاع تكاليف إنتاج السلع ، وهنا يكون رفع سعر الفائدة سياسة غير مجدية لسببين ، أولهما أن رفع الفائدة يعنى رفع تكاليف تمويل إنتاج السلع وبالتالي إضافة مسبب آخر لارتفاع التضخم ، وثانيهما أنه ربما تنجح السياسة النقدية التقييدية في أمريكا وأوروبا في خفض وتيرة ارتفاع الأسعار ، وبالتالي ينعكس ذلك على أسعار مدخلات الإنتاج التي تستوردها الدول الناشئة بما فيها مصر ، ونكون قد تسرعنا فى رفع الفائدة فى الوقت الذي قد تكون ظواهر التضخم العالمية والمحلية ظواهر مؤقتة.

 3 – لا يغيب علينا أن السياسة النقدية التي يتبناها البنك المركزي هي سياسة تيسيرية مرنة تحقق مصالح كل أطراف المنظومة ، تسعى إلى  توازن الاقتصاد الكلي ، ودفع النمو الاقتصادي ، ورعاية الصناعات والأنشطة الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر ، وتوفير السيولة والتمويل لهم ،  من خلال مبادرات بأسعار فائدة متميزة ، وفى نفس الوقت رعاية القطاع العائلي من المدخرين ، وتوفير أوعية ادخارية لهم تتمتع بعائد يفوق الأسعار الإسترشادية الرسمية ، وتضمن لهم عائدا حقيقيا معقولا ، يتناسب مع معدل التضخم السائد ، كل ذلك بغض النظر عن الحاجة لرفع الفائدة من عدمه.

4 – نلاحظ أن معظم العملات الناشئة شهدت انخفاضا حقيقياً في الأعوام الأخيرة إلا أن الجنيه المصري، ومنذ نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي وتحرير الجنيه المصري، وهو يحقق استقراراً ملحوظا جعله من أفضل العملات الناشئة من حيث الأداء ، ومن حيث كونه أفضل العملات تحقيقا لعائد حقيقي للمستثمرين الأجانب ، ومع تنامي قوة الاقتصاد القومي وثبات درجة تقييمه الائتماني من قبل كل مؤسسات التقييم الدولية منذ الجائحة وحتى الآن ، وتحقيق الاقتصاد إنجازات متميزة في معظم مؤشراته المالية والنقدية، خاصة معدل النمو الاقتصادي ومعدل التشغيل ، في ضوء ذلك يمكن استبعاد أي تأثير سلبي أو أي ضغوط على قيمة الجنيه المصري يمكن أن تنتج من قوة الدولار المحتملة بعد رفع أسعار فائدته.

  5 – رغم الاتجاه التصاعدي لمعدل التضخم ، إلا أننا نلاحظ أنه يظل حتى الآن  محدود الارتفاع ، ليسجل رقما أحاديا ، قابعا بين منتصف حدي ‏المدى والنطاق الذي استهدفه البنك المركزي وهو ( 7 % ±2% ) أي بين تسعة وخمسة في المائة حتى نهاية الربع الرابع من عام 2022.

6 – إن قلق بعض المراقبين أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي ( البنك المركزي الأمريكي بتنفيذ برنامج رفع الفائدة المتوقع في مارس القادم ، وذلك في إطار سياسته للسيطرة على التضخم ، والخوف من ظهور تداعيات لتلك الإجراءات على استثمارات الأجانب غير المباشرة في أوراق الدين العام الحكومية المصرية ، إن تلك المخاوف رغم واقعيتها إلا أنه قد يكون مبالغ فيها نسبياً ، لأن تنوع مصادر النقد الأجنبي واستقرار سعر الجنيه المصري والاحتياطي بالنقد الأجنبي وتميز الجنيه المصري من حيث تحقيقه عائدا حقيقيا منافسا ، كل ذلك يقلل ويخفف من تأثير تلك المخاوف على المدى القصير والمتوسط ، بالإضافة إلى أن توجه مصر لإستراتيجية التحول إلى مصادر قروض طويلة الأجل كبديل للأموال الساخنة وأيضاً دخول السندات الحكومية لمنصة يوروكلير سيساعد علي جذب استثمارات جديدة طويلة الأجل ستعوض خروج استثمارات الأجانب قصيرة الأجل فى أوراق الدين العام المحلية إذا ما خرجت بتأثير ارتفاع الفائدة الأمريكية المحتمل والمتوقع.

بناء على ما سبق ومع تأكيدنا أن لجنة السياسة النقدية الموقرة تملك الرؤيا والآليات و المعرفة الدقيقة ببواطن الأمور المحلية والعالمية وهى صاحبة القرار  ، نتوقع أن تُبقى لجنة السياسة النقدية أسعار الفائدة كما هي عليه خلال الاجتماعات التالية ، وحتى نهاية العام الحالي.

إن إجراء أي رفع أو خفض فى المرحلة الحالية التي يعاصر فيها العالم حالة شديدة من حالات عدم اليقين قد يكون في غير توقيته ، لأن البنك المركزي يستهدف إتباع سياسة نقدية لموازنة آثار التضخم بعد أن أتم السيطرة عليه ، فرفع الفائدة، ونحن مازلنا في الموجة الرابعة من كوفيد 19 ، قد يؤدي إلى تقليص التعافي والنمو الاقتصادي بل وزيادة معدل التضخم ،  وخفض الفائدة قد يؤدى إلى انكماش الطلب الكلي على السلع والخدمات نتيجة انخفاض القوة الشرائية للمدخرين من القطاع العائلي ، كما قد يؤثر سلباً على حجم وقيمة الاستثمار الأجنبي غير المباشر.

إن لجنة السياسة النقدية المصرية تراعى دائما أن تتوافق توجهاتها وفقا لتطور الأوضاع المحلية والإقليمية والعالمية ، ولصالح الاقتصاد المصري والمواطنين ، وسوف تظل سياسة نقدية رشيدة فائقة التيسير شديدة المرونة فى دفع النمو الاقتصادي ودعم الاقتصاد القومي ، والحفاظ على استقرار الأسعار واتخاذ كل الخطوات والإجراءات التي تتطلبها مستحدثات الأحداث العالمية والمحلية.

محمد عبد العال

خبير مصرفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى