بلومبرج : قوة الدولار تجبر دول العالم على العمل منفردة للدفاع عن عملاتها

ارتفع الدولار الأمريكي بقوة بدعم من سياسة "الاحتياطي الفيدرالي" النقدية المتشددة

تُجبَر البلدان على العمل بمفردها لإقامة تحصينات دفاعية في مواجهة القوة العنيدة للدولار الأمريكي، مع غياب علامة على استعداد الحكومات للعمل بطريقة منسقة، بحسب بلومبرج

ارتفع الدولار الأمريكي بقوة بدعم من سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي النقدية المتشددة، والقوة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية، والمستثمرين الذين يبحثون عن ملاذ آمن من انهيار السوق، وصعد مقابل نظرائه الكبار والصغار بأكبر قدر منذ عقود.

باتت اليابان أحدث دولة كبرى تدخل مباشرة في نزاع العملات الأجنبية، حيث التحقت ببلدان بداية من الهند وصولاً إلى تشيلي التي كانت تستغل مخزوناتها من الدولارات للنضال ضد العملة الأميركية الجبارة.

بينما تذكّرنا مشكلات أسواق العملات حالياً من جهات كثيرة بفترة الثمانينيات من القرن الماضي، فليس من المرجح أن تكون الحلول على هذا النحو. في ذلك الوقت، اتفقت القوى العالمية الاقتصادية العظمى على التصدي لمشكلة استمرار قوة الدولار بتناغم كامل، إذ توصلت إلى اتفاقية في 1985 بجانب اتفاقية بلازا. بالوقت الراهن ، يوجد القليل من الدلائل على أن مثل هذا الاتفاق سيكون وشيكاً في ظل تنافر المصالح الاقتصادية الوطنية وانقلاب مسار التحول على مدى عقود عديدة صوب تكامل عالمي أكبر للاتجاه المعاكس.

وقال فيراج باتيل، الخبير الاستراتيجي في “فاندا ريسيرش” (Vanda Research)، إن التنسيق وفقاً لأسس اتفاق بلازا جديد سيتطلب مشاركة الإدارة الأميركية، ويوجد “احتمال قريب من 0% لتدخل وزارة الخزانة الأميركية حالياً لإضعاف الدولار، ويوجد كثير من المؤلفات التي تبيّن أن التعويل على أمر غير واقعي في سوق العملات الأجنبية يُعدّ ممارسة عقيمة عندما يكون للسياسة النقدية أثر عكسي”.

وكان الإجراء الذي اضطلعت به اليابان الخميس الماضي مسألة فردية بطريقة كبيرة، إذ أكد مسؤول من وزارة الخزانة الأميركية أنها لم تسهم فيه وأوضح البنك المركزي الأوروبي أنه لم يتورط بالتدخلات في سوق العملات. وصرح متحدث باسم وزارة الخزانة الأميركية أن الوزارة تفهمت الإجراء لكن الأمر لم يذهب إلى حد تأييده.

ويفاقم تراجع قيمة جميع العملات -بداية من اليورو وصولاً إلى الوون الكوري الجنوبي- ضغوطات التضخم المتنامية فعلاً في كافة أنحاء العالم، ما يضطر العديد من صناع السياسة النقدية إلى استخدام مجموعة أدواتهم بقدر أكبر.

وتستمر الصين، ثاني أكبر اقتصاد حول العالم، بتدعيم دفاعها ضد الدولار من خلال مثبتات أقوى من المتوقع في أسواق العملات الأجنبية. تدرس البنوك المركزية بغالبية مناطق العالم -مع بعض الاستثناءات منها اليابان- زيادة أسعار الفائدة في الوقت الذي تتصدى فيه لصعود أسعار المستهلكين وتراجع قيمة العملات الأجنبية.

وشهد مؤشر بلومبرج للدولار، الذي يقيس العملة مقابل سلة من نظرائها بالأسواق الناشئة والمتقدمة، زيادات خلال الأسبوع الجاري عقب تأكيد البنك المركزي الأميركي عزمه على رفع تكاليف الاقتراض سعياً للقضاء على التضخم.

وبصورة جلية برهنت قوة الدولار واسعة النطاق هذه، علاوة على تداعيات السوق الناجمة عن قرار بنك اليابان المركزي الأخير، على أنها مفرطة بالنسبة للحكومة اليابانية. تحدث المسؤولون بطوكيو في السابق فقط عن مخاوف تتعلق بسوق العملات الأجنبية، لكنهم كثفوا من كفاحهم الخميس عبر العمل مباشرة لدعم سعر صرف الين لأول مرة منذ عقود. جاء ذلك حتى في وقت خالف فيه البنك المركزي الياباني الاتجاه العالمي صوب تشديد السياسة النقدية وحافظ على استمرار تكاليف الاقتراض الرسمية منخفضة.

وتنضم اليابان لمجموعة متزايدة من البلدان التي تبنت تدابير مباشرة بأسواق الصرف الأجنبي، بما فيها تشيلي وغانا وكوريا الجنوبية والهند. كما قال البنك المركزي في سويسرا في قراره المتعلق بالسياسة النقدية الخميس الماضي إنه على استعداد للتدخل بسوق العملات الأجنبية إذا تطلب الأمر ذلك.

وقال جورج بوبوراس، خبير الأسواق منذ ثلاثة عقود ورئيس وحدة الأبحاث بصندوق التحوط “كيه2 أسيت مانجمنت” (K2 Asset Management): إنه سيناريو” كل رجل يتحمل مسؤولية لنفسه “في الوقت الراهن لأن العالم بات أشد انقساماً حالياً مما كان عليه بفترة الثمانينيات من القرن الماضي، وتُعدّ فرص التنسيق العالمي لإضعاف الدولار قريبة من مستوى الصفر، ونتوقع مشاهدة المزيد من حروب العملات في الاتجاه المعاكس”.

ويتمثل أحد الاختلافات الجوهرية عن فترة الثمانينيات من القرن الماضي في الحجم الهائل لتداول العملات الأجنبية حالياً، إذ بلغ متوسط حجم التداول اليومي 6.6 تريليون دولار حينما أُجري أحدث مسح يقوم به كل 3 أعوام بنك التسويات الدولية في 2019. ويفوق ذلك 5.1 تريليون دولار تحققت قبل ذلك بـ3 أعوام فقط ويتجاوز بصورة هائلة ما كان عليه في 1986 عندما بدأ بنك التسويات الدولية هذا النوع من المسح للنشاط.

ويترك الدولار الأمريكي القوي بصفة متواصلة صناع السياسات النقدية بداية من طوكيو وصولاً إلى سانتياغو في حالة مكافحة حرائق شبه مستمرة للتخفيف من أضراره على اقتصاداتهم. كما أنه يفاقم إشكالية تضخمية جرى زرع بذورها أثناء أزمة سلاسل التوريد المرتبطة بالوباء وحرب روسيا على أوكرانيا. وأسفر صعود الدولار العام الجاري فعلياً عن زيادة تكلفة واردات الغذاء العالمية، وتسبب في أزمة ديون تاريخية في سريلانكا، وضاعف خسائر مستثمري السندات والأسهم في كافة الأنحاء.

ما دام الاحتياطي الفيدرالي يزيد تكاليف الاقتراض بصورة أسرع من غالبية نظرائه، فستبقى كافة العملات الأخرى تقريباً ترزخ تحت وطأة الضغوط.

على عكس فترة الثمانينيات من القرن الماضي، فإن اليابان مصممة على الإبقاء على سياسة نقدية فائقة التيسير. أكد حاكم بنك اليابان المركزي هاروهيكو كورودا في إيجاز صحفي الخميس على عدم وجود زيادة لأسعار الفائدة قيد الإعداد وأن الدليل التوجيهي الخاص بالسياسة النقدية في المستقبل لن يشهد تغيراً بالوقت الراهن، وحتى على مدى سنتين أو 3 سنوات مقبلة من الناحية المبدئية. يعني ذلك أن التدخل المباشر ربما يتجاوز قليلاً بالنهاية مجرد إجراء بائس رغم أن لديها قدرة قتالية في احتياطياتها من النقد الأجنبي أكثر مما كان لديها أخر مرة تحركت فيها لتدعيم سعر صرف الين.

وقال جيريمي سترتش، رئيس وحدة استراتيجية عملات مجموعة الدول الـ10 في مصرف “كانيديان إمبريال بنك أوف كوميرس” في لندن، إن الحكومة اليابانية “تستطيع فقط إبطاء التراجع، حتى ينحسر زخم الدولار أو تنقلب ديناميكيات التداول اليابانية”، مشيراً إلى أنه لم يكن من المؤمنين بعملية إحياء اتفاق بلازا.

وعلى صعيد أوروبا، تضرب أزمة الطاقة والحرب في أوكرانيا اقتصاد المنطقة، ما قد يحول دون قدرة البنك المركزي الأوروبي على مواكبة مسار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لزيادة أسعار الفائدة.

ويقول المشاركون في السوق إنه يوجد أسباب جوهرية أخرى تجعل الاتفاق العالمي للحد من قوة الدولار بمثابة تفكير حالم.

وبالنسبة للمبتدئين، تُعدّ الصين حالياً أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة واليابان ودول بكافة أنحاء أوروبا. من المحتمل أن يكون الاتفاق بدون مشاركة بكين غير فعال. وبينما يواجه اليوان ضغوطات في مقابل الدولار وتستند الحكومة هناك في مواجهة الضعف إلى عمليات تثبيتها، فإنها بعيدة تماماً عن المستويات المتأزمة التي تحتاج إلى تعاون الصين. واقعياً، نظراً إلى أنها قصة ترجع بصورة كبيرة لقوة الدولار، فإن اليوان يُتداول حقيقة حول أعلى مستوياته التاريخية مقابل بعض نظرائه الآسيويين الكبار.

والأكثر أهمية من ذلك أنه يوجد غياب واضح للتأييد الأميركي لكبح صعود سعر صرف الدولار.

وتستحق بالكاد قوة العملة الأميركية ذكرها في جلسات استماع عقدها الكونغرس الأميركي مؤخراً من خلال جيروم باول ووزيرة الخزانة جانيت يلين. تفيد قوة الدولار على أرض الواقع بالتصدي لضغوطات أسعار المستهلكين، لأنها تجعل السلع والخدمات المستوردة أرخص بينما تؤثر أيضاً كرياح غير مواتية محتملة للنمو.

وقالت جين فولي، الخبيرة الاستراتيجية في مصرف “رابوبنك”بلندن: “لا أعتقد أن التوصل لاتفاق من نوعية بلازا هو ممكناً ليس على الأقل حتى يؤمن بنك الاحتياطي الفيدرالي أنه قصم ظهر التهديد التضخمي بالولايات المتحدة، حيث تُعدّ قوة الدولار نتيجة ثانوية لسياستها النقدية المتشددة وستكون جهود إضعاف الدولار متناقضة مع أسعار الفائدة وسياسات التشديد الكمي”.

إن مكافحة تفوق الدولار دون تأييد الولايات المتحدة قد يثبت فشلها في نهاية الأم. لكن صناع السياسة النقدية لا يمتلكون خياراً سوى مواصلة الدفاع عن عملاتهم أو المخاطرة بمتاعب اقتصادية على نطاق واسع.

وأطلق البنك المركزي التشيلي العنان لخطة تدخل قيمتها 25 مليار دولار في يوليو الماضي، واشترت السلطة النقدية في هونغ كونغ دولارات محلية بمعدل قياسي للدفاع عن ربط المدينة العملة بالدولار.

وإجمالاً، تستهلك الاقتصادات النامية ما يعادل أكثر من ملياري دولار من الاحتياطيات الأجنبية كل يوم لتدعيم عملاتها مقابل الدولار، ويتوقع الخبراء الاستراتيجيون تصاعد هذه الجهود المبذولة.

وكما يقول لوتز رويمير، كبير مسؤولي الاستثمار في شركة “كابيتوليوم أسيت مانجمنت”ومقرها برلين، فإن صُنّاع السياسة النقدية سيتوجب عليهم فقط “زيادة أسعار الفائدة حتى لا يُضارب أحد ضد عملتك مجدداً”.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى